top of page

وميض من الصبر و الصابرين

" وميض[1] من الصبر والصابرين "

 

الصبر طريق رحب الارجاء متشعب الدروب والشعاب ممتد على طول الزمان مع حياة الانسان على الارض ...               

 

والحديث عن الصبر والصابرين حديث رائق معجب، تحن إليه النفوس الطيبة وتأنس اليه القلوب الواعية وتعلو به الهمم المتيقظة، وتتحرك له الحياة بمشاعر رشيدة هادئة، باحاسيس مفعمة بالاخلاق الفاضلة الكريمة، فيحلق بها بعيداً عن الجهل والكبر، بعيداً عن الزيغ والصلف، بعيداً عن الاثرة وحب الذات، بعيداً عن الهوى والرغبات، الى آفاق الحياة الفاضلة الكريمة، آفاق العفة والزهد، والقناعة والحلم، الى آفاق الصفح والعفو، الى آفاق الشجاعة والمروءة والجود والكرم، الى آفاق العدل والرضا، والوقار، الى آفاق آداء الواجب والإيثار، حيث الصحبة الفاضلة الرشيدة... مع خير البشر، خير من وطأ الأرض، حيث صحبة الانبياء والمرسلين، وصحبة الصديقين والشهداء والصالحين، وكل من سار على دربهم الى يوم الدين، صحبة احكم واعقل خلق الله الذين تمثلوا برسالات الله وكانوا هم أئمة الصبروالصابرين، الهداه المهدين.

 

فدروب الصبر كلها خير عميم، وفرح مبين، ونجاح فى الاولين والاخرين لكل من وعى سنة الله فى خلقه.

 

قال تعالى: " لتبلون فى اموالكم وانفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين اشركوا أذى كثيراً وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الامور (186) " آل عمران.

 

قال تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48) " المائدة.

 

قال تعالى: " أنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملاً (7)" الكهف.

 

وقال تعالى: " هنالك ابتلوا المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11) " الاحزاب.
 

وقال تعالى: " ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا اخباركم (31) " محمد.

 

وقال تعالى: " إن هذا لهو البلاء المبين (106) " الصافات.

 

وقال تعالى: " حتى اذا استيئس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين (110) " يوسف.

 

 

ان الشدة والكرب والضيق فى حياة الرسل صورة ترسمها هذه الاية الكريمة، ترسم لنا مبلغ ما يواجهون من الكفر والعمى والجحود، ثم تمر الايام والرسل يدعون، لا مجيب، ولا يستجيب الا القليل، فالمؤمنون قلة، عدتهم ضئيلة، والباطل فى قوته وكثرة اهله يتنفس، ويطغى، ويتكبر، ويبطش ويقدر....

والرسول يدعو، حتى يبلغ الكرب والحرج والضيق منه فوق ما يطيق البشر، وفى اللحظات التى يستحكم فيها الكرب، ويتقطع الأمل، وظنوا انهم قد كذبوا، فى هذه اللحظة ياتى النصر، كاملاً حاسماً فاصلا بين الحق والباطل.

 

قال تعالى:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله الا ان نصر الله قريب(214) " البقرة.

 

تلك سنة الله فى خلقه، لابد من الشدائد، لتمحيص الصف، لابد من الكرب حتى لا يبقى بقية من جهد، ثم ياتى النصر بعد اليأس من اسبابه الظاهرة التى يتعلق بها البشر، ياتى النصر كاملاً من عند الله للفئة المؤمنة الصابرة، فسنة الله ان ياتى النصر ولا يكون رخيصاً، ولا تكون الدعوة اليه هزلاً، وعبثاً، ولعباً، إنها دعوة إلى الحق، والنصر غالى، لارساء قواعد الحياة البشرية والمناهج التى ينبغى حراستها وصيانتها من الادعياء، فالدعوة الى الله كثيرة التكاليف، لا ينضم اليها الا القلة التى تؤثر حقيقة الدين على الراحة والسلامة والمتاع.....
 فالدعوة صبر... والصبر خير... فإلى لمحات من الصبر مع الصابرين.

 

 

" يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى

ان شاء الله من الصابرين "

 

قال تعالى: " وقال انى ذاهب الى ربى سيهدين (99) رب هب لى من الصالحين (100) فبشرناه بغلام حليم (101) فلما بلغ معه السعى قال يا بنى انى ارى فى المنام انى اذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت أفعل ما تؤمر ستجدنى ان شاء الله من الصابرين (102) فلما اسلم وتله للجبين (103) وناديناه ان يا ابراهيم (104) قد صدقت الرؤيا انا كذلك نجزى المحسنين (105) ان هذا لهو البلاء المبين (106) وفديناه بذبح عظيم (107) وتركنا عليه فى الاخرين (108) سلاماً على ابراهيم (109) كذلك نجزى المحسنين(110) " الصافات.

 

مع ابراهيم الخليل، ابراهيم الذى وفى، الذي وصفه الله بانه امة قانت لله حنيفاً، انه شاكر لانعمه، هداه الله الى صراط مستقيم، انه من المحسنين، المؤمنين، الذى قال له الله انى جاعلك للناس اماماً، ابراهيم الذى جعل الله فى ذريته النبوة والكتاب الى يوم الدين.

 

مع موقف من مواقف البلاء المبين لابو الانبياء والمرسلين، ومواقف الخليل فى الصبر يطول الحديث عنها، حين القي في النار، حين هاجر من بلاد عباد الاصنام، الى بلاد عباد الكواكب، حين هاجر الى بلاد الشام، وهجرته الى ارض مصر، ثم هاجر الى بيت المقدس واستقر، الى ان طعن فى السن وهو يدعوا الى الله، وكان عليه السلام ليس له ولد، فدعا الله رب هب لى ولدا صالحا، فبشره الله بغلام حليم ونبى كريم هو اسماعيل عليه السلام، وكان ابراهيم عليه السلام عند ولادة اسماعيل على راس ست وثمانين عاماً، ثم امره الله سبحانه وتعالى ان يخرج بهاجر، ام اسماعيل وولدها الى مكة، حيث لا ماء ولا زرع ولا جليس ولا أنيس، ووضع عندهما جرابا من تمر وسقاء فيه ماء وتركهما عند البيت الحرام ودعا ربه " ربنا انى اسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم..... الايات من سورة ابراهيم" .. لنقم الصلاة، ودعا الله ان يجعل افئدة من الناس تهوى اليهم، اللهم ارزقهم من الثمرات، فاستجاب الله له الى ان بلغ اسماعيل السعى على مصالحه كأبيه من العمل والدعوة واصبح شاباً، رأى إبراهيم عليه السلام فى المنام انه يؤمر بذبح ولده، وتكرر الامر، كلما نام عليه السلام رأى انه يذبح ولده...

 

 

هذا اختبار من الله عز وجل لخليله ابراهيم ان يذبح هذا الولد العزيز الوحيد الذى جاءه على كبر، بعد أن بلغ هذا الولد السعى واصبح شاباً حليماً، يأنس اليه أبيه، يسعى معه يرافقه فى الحياة.

 

علم ابراهيم عليه السلام انها اشارة من ربه بالتضحية بولده فلم يتردد ولم يخالجه الا شعور الطاعة، والتسليم دون اعتراض، والقبول لأمر الله في هدوء وطمأنينة، وقال لابنه " انى ارى فى المنام انى أذبحك " سبحان الله العليم الحكيم، من سيتولى الذبح.... ابراهيم هو الذى سيذبح ولده بيده عليهما السلام ، ولم يتردد الابن " ياأبت افعل ما تؤمرستجدنى ان شاء الله من الصابرين" ... بكل طاعة لامر الله، وامر ابيه بكل رضى ويقين، بكل مودة "يا أبت" لفظ فيه قربى وحب ومودة، دون انزعاج ولا فزع، دون ان يفقد حتى أدبه مع ابيه " أفعل ما تؤمر " فهو يعرف ان الرؤيا اشارة لابيه وهى امر من الله..." افعل ما تؤمر ستجدنى ان شاء الله من الصابرين " ستجدنى بامر الله ومشيئته من الصابرين ، فالفضل فى الصبر كله لله ... أدب مع أبيه .... أدب مع الله ، فيالروعة الايمان ، وعظمة التسليم ، يالروعة الامتحان ، والبلاء المبين .... فلما اسلما، اى فوضا امرهما الى الله انفاذ لأمره، وكبه على وجهه للذبح، حتى لا يشاهده فى حال ذبحه " وتله للجبين "، ثم شمرابراهيم واخذ السكين واضجع ولده، سألاً الله ان يتقبل منه هذا، فما هذا الا امتثالا لامره سبحانه وابتغاء مرضاته، فاوحى الله اليه يا ابراهيم لم يكن المراد ذبح الولد وانما المراد تصديق الرؤيا والامتثال لنا،
 قال تعالى: " وناديناه ان يا ابراهيم (104) قد صدقت الرؤيا انا كذلك نجزى المحسنين (105) ان هذا لهو البلاء المبين (106)"

 

إن الابتلاء قد تم والامتحان قد وقع ونتائجه قد ظهرت وغاياته تحققت ولم يعد الا الدم المسفوح والجسد الذبيح... والله لا يريد ان يعذب عباده بالابتلاء ولا يريد دماءهم ولا اجسادهم فى شئ ، ماداموا قد اخلصوا له واستعدوا للاداء بكلياتهم فقد ادوا وحققوا التكليف ، واجتازوا الامتحان بنجاح.

 

ولقد عرف الله من ابراهيم واسماعيل صدقهما فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا " قد صدقت الرؤيا" وحققها فعلا فالله لا يريد الا الاسلام والاستسلام بحيث لا يبقى فى النفس ما تعزه عن امر الله او تحتفظ به دونه ولو كان فلذة الكبد... الابن... فأنت يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وجودت بكل شئ واعز شئ فى هدوء ورضى وطمأنينة ويقين.

 

" انا كذلك نجزى المحسنين " نجزيهم باختبارهم لمثل هذا البلاء ، نجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها الى مستوى الوفاء ، نجزيهم باقدارهم واصبارهم على الوفاء ، نجزيهم كذلك باستحقاق افضل الجزاء....

 

إن هذا لهو البلاء الواضح الظاهر البين، ان يمتثل الاب لامر الله، أن يذبح ابنه الغلام الحليم الصابر المطيع فلذة كبد أبيه... وان الجزاء على قدر البلاء... فجاء عظم الجزاء مع عظم البلاء ... ان بشر ابراهيم باسحاق نبياً من الصالحين.. ولدا آخر من الصالحين، ثم بارك الله على ابراهيم وعلى إسحاق، وجعل كل الانبياء من ذريته، سلام على المرسلين الانبياء الصادقين المسلمين الصابرين...

 

ان الانقياد لامر الله، والمبادرة الى تنفيذه بكامل الرضا والقبول دون تردد ولا تعصب هذا ما دل عليه موقف ابراهيم الخليل ابو الانبياء حين تلقى الاشارة من ربه بذبح ابنه الصادق الحليم اسماعيل، الذى ابتلى ابتلاء عظيم وامتحن امتحانا عصيباً ان يذبح على يد والده، ولم يرتجف ولم يهتز ولم يغضب، بل كان مستسلماً لامرالله، عاملاً على طاعته بقوله يا ابت افعل ما تؤمر.. كلمة كلها حب... فكان حقاً على الله نصر المؤمنين وتفريج كرب الصابرين فان الله يبتلى العبد على وجه الامتحان لمدى طاعته وصدقه فى الشدائد ومدى تمسكهم بدينهم وقت الصعاب والمحن وعلى هذه السنة الالهية امتحن الله خليله ابراهيم وابنه الحليم اسماعيل، فالله سبحانه وتعالى يختبر من يشاء كيفما يشاء وقتما يشاء وهو ارحم الراحمين....

 

قال تعالى: " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو اخباركم "

 

وقال (ص): " أشد الناس بلاء الانبياء ثم الامثل فالامثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فان كان فى دينه صلباً اشتد بلاؤه، وان كان فى دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الارض وما عليه خطيئة " رواه احمد وصححه... رواه الترمذى وابن ماجه.

 

 

 

 

 

 

 

 

" في غيابات الجُب "

 

قال تعالى: " لقد كان فى يوسف وأخوته آيات للسائلين (7) اذ قالوا ليوسف وأخوه احب الى ابينا منا ونحن عصبة ان آبانا لفى ضلال مبين (8) اقتلوا يوسف او اطرحوه ارضاً يخل لكم وجه ابيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين (9) قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف والقوه فى غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة ان كنتم فاعلين (10) قالوا يا آبانا مالك لا تامنا على يوسف وانا له لناصحون (11) ارسله معنا غدا يرتع ويلعب وانا له لحافظون (12) قال انى ليحزننى ان تذهبوا به واخاف ان ياكله الذئب وانتم عنه غافلون (13) قالوا لان اكله الذئب ونحن عصبة إنا اذا لخاسرون (14) فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه فى غيابات الجب واوحينا اليه لتنبئنهم بامرهم هذا وهم لا يشعرون (15) " يوسف.

 

نزلت سورة يوسف فى الفترة ما بين عام الحزن بموت ابى طالب وخديجة رضى الله عنها سندى رسول الله (ص) وبين العقبة الاولى... نزلت فى الوقت الذى كان يعانى رسول الله (ص) الوحشة والغربة والانقطاع فى جاهلية قريش، وتعانى معه الجماعة المسلمة... كان الله سبحانه وتعالى يقص عليه قصة أخيه يوسف عليه السلام وهو يعانى صنوفاً من المحن والابتلاءات.

 

محنة كيد أخوته له، محنة الجب والترويع فيه، محنة الرق وهو يتنقل من يد الى يد على غير ارادة منه، وحيداً لا حماية له من اهل ولا اب، محنة كيد أمراة العزيز والنسوة وقبلها محنة الابتلاء بالاغراء والفتنة والشهوة، ثم محنة السجن بعد رغد العيش فى قصر العزيز، ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق، وهو متحكم فى اقوات الناس، ومحنة المشاعر الانسانية حين يلقى بعد ذلك اخوته الذين ألقوه فى الجب.

 

فحياة يوسف عليه السلام كلها محن وابتلاءات، حتى تسرى هذه القصة وتطمأن وتثبت الرسول الكريم والجماعة المسلمة المطاردة المعذبة المشردة لما فيها من التلميح بالمخرج من المكروه الذى لابد ان يليه الفرج المرغوب، حتى تدرك القلوب المؤمنة فى هذه الفترة العصيبة، وتلمح من بعيد ان الفرج آت وان بعد العسر يسرا، وتمر القصة من محنة الى آخرى، محنة اخوة يوسف وهم يتآمرون عليه، يدبرون له ما يدبرون، نحن العصبة القوة التى تدفع وتنفع، وأبانا فى ضلاله يؤثر علينا غلاماً وصبياً صغيراً علينا نحن مجموعة الرجال النافعين.. ثم يتحرك الحقد يغلى فى صدورهم ويدخل الشيطان بينهم فيختل تقديرهم وتتضخم فى حسهم اصغر الاشياء وتهون عليهم احداث ضخام، تهون
عليهم فعلتهم الشنعاء يهون عليهم قتل اخيهم الغلام الصغير، الذى لا يملك دفعاً عن نفسه لاى ضر، وتعظم فى اعينهم حكاية إيثار ابيهم له... " اقتلوا يوسف او اطرحوه ارضاً يخل لكم وجه ابيكم " ولا يحجبه يوسف عنكم ثم سول لهم الشيطان كما يسول للنفوس عندما تغضب وتفقد القدرة على التقدير الصحيح للاشياء ، وقال لهم اقتلوا ثم توبوا لتكونوا من الصالحين " وتكونوا من بعده صالحين " هكذا زين لهم الشيطان الجريمة حتى تهون الجريمة فى اعينهم ، وهنا يرتعش ضمير احدهم لهول ماهم مقدمون عليه فيقترح حلاً يريحهم من يوسف ويخلى لهم وجه ابيهم ، " قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة ان كنتم فاعلين".

 

 

ثم يبدأ التنفيذ.... تنفيذ المؤامرة فهم عازمين على الفعل... وهاهم يخادعون اباهم ويمكرون به وبيوسف " ياأبانا مالك لا تامنا على يوسف وانا له لناصحون" ياأبانا نحن ابناءك وهذا اخونا وانت ابانا، لفظ موحى بما بينه وبينهم من آصرة... مالك لا تامنا على يوسف، سؤال فيه عتاب لابيهم واستنكار، كيف لا تامنا على يوسف ونحن له ناصحون، قلوبنا صافيه لا يخالطها سوء... ارسله معنا غدا يرتع ويلعب وانا له لحافظون " فلياتى معنا غدا...يآكل ويلعب ويسر ويفرح واننا قادرون على الحفاظ عليه.. واخذ الأب يعلل لهم احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من ان تاكله الذئاب... " انى ليحزننى ان تذهبوا به واخاف ان ياكله الذئب وانتم عنه غافلون "، ولكنه الإصرار على ما تم تدبيره فاختاروا اسلوبا من الاساليب المؤثرة لنفى هذا الخاطر عن ابيهم قالوا لئن اكله الذئب ونحن عصبة انا اذاً لخاسرون " فان غلبنا الذئب عليه ونحن جماعة قوية فتية فلا خير فينا... اننا لخاسرون فى كل شيء... لا نصلح شئ ابداً.

 

وهكذا استسلم الوالد ليتحقق قدر الله وتتم القصة كما تقتضى مشيئة الله سبحانه وتعالى.

 

والآن لقد ذهبوا بيوسف... وهاهم اولاء ينفذون المؤامرة النكراء والله سبحانه وتعالى يلقى فى روع الغلام انها محنة وتنتهى وانه سيعيش وسيذكر اخوته بموقفهم هذا منه وهم لا يشعرون.

 

 

" فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه فى غيابات الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون ".

 

فلما ذهبوا به بعيدا عن ابيهم، وتواروا عنه، ثم شرعوا يؤذونه بالقول والسب والضرب... ثم جاءوا به الى ذلك الجب الذى اتفقوا على رميه فيه... ودلوه فيه

 

فكان اذا لجا لاحدهم لطمه وشتمه واذا تشبث بحافة البئر ضربوا على يديه.. إلى أن سقط في البئر فغمره الماء فصعد على صخرة فى وسطه فقام فوقها.

 

يقول وهب بن منبه الصنفانى[2] " فلما قام يوسف عليه السلام على الصخرة نادى اخوته قائلا لهم اذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتى واذا اكلتم فاذكروا جوعى واذا شربتم فاذكروا عطشى، وإذا رأيتم غريباً فاذكروا غربتي.. ثم اخذ يدعوا الله " اللهم يا مؤنس كل غريب يا صاحب كل وحيد يا ملجأ كل خائف يا كاشف كل كربه يا عالم كل نجوى يا منتهى كل شكوى يا حى يا قيوم اسالك ان تقذف رجاءك فى قلبى حتى لا يكون لى هم ولا شغل غيرك، وان تجعل لى من امرى فرجا ومخرجا انك على كل شئ قدير ".

 

فأوحى الله إليه " لتنبئنهم بامرهم هذا وهم لا يشعرون ".

 

ففى هذه اللحظة ... لحظة الضيق والشدة التى كان يواجه فيها الفزع، والموت منه قريب ولا منقذ ولا مغيث وهو وحده صغير لا يدرى ما يفعل فىهذه اللحظة اليائسة يلقى الله فى روعه انك ناج وستعيش حتى تواجه اخوتك وتواجههم بهذا الموقف الشنيع منك، وهم لا يشعرون بان الذى يواجههم هو انت يوسف الذى تركوه فى غيابات الجب وهو صغير.. وحيد في ظلمة الجب.

 

وتمضى المواقف والمحن مع نبى الله الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ويمضى هو صابرا بلا شكوى ولا جزع راضياً بقضاء الله صابرا صبرا جميلاً، كما صبر ابيه يعقوب عليه السلام صبراً جميلاً، لان الصبر اوسع عطاء للخير يعطاه الانسان، وان الله سبحانه اقام حياة الانسان على الصبر والثقة بالله،  يصبر لان السنن الكونية تحتاج الى الصبر والثبات، وان مع العسر يسرا، وان يلجأ الانسان دائماً الى الله يشكو حزنه وهمه وضعفه الى الله، يطلب عونه ومغفرته ورحمته كما قال يعقوب عليه السلام " قال انما اشكوا بثى وحزنى الى الله (86) يوسف.

 

وان لا ييأس الانسان المسلم ابداً من رحمة الله وفرجه كما قال يعقوب عليه السلام " ولا تيئسوا من روح الله انه لا ييأس من رح الله الا القوم الكافرون (87)" يوسف.

 

وان المؤمن يعيش فى ظل الكرب الخانق يتنسم رحمة الله، روح الله وفرجه ورحمته، لا ييأس ابدا من روح الله مهما اشتد به الضيق، فهو في انس من جواره بربه وفى طمأنينة وثقة بمولاه ارحم الراحمين مهما كانت مضايق الشدة ومخانق الكرب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

" إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب "

 

 

قال تعالى: " وأيوب إذ نادى ربه انى مسنى الضر وانت ارحم الراحمين (83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر واتيناه اهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84) " الانبياء.

 

قال تعالى: " واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه انى مسنى الشيطان بنصب وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له اهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولى الالباب (43) وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث انا وجدناه صابراً نعم العبد انه اواب (44) " ص.

 

 

كان ايوب عليه السلام عظيم التقوى رحيماً بالمساكين يكفل الارامل والايتام يكرم الضيف ويدعوا قومه الى عبادة الله وحده، وكان عليه السلام رجلاً كثير المال من سائر صنوفه وانواعه من الانعام والعبيد والمواشى والاراضى الواسعة وكان له اولاد واهلون كثيرا فسلب منه ذلك جميعاً وابتلى فى جسده بانواع البلاء وهو فى ذلك كله صابراً محتسباً ذاكراً لله فى ليله ونهاره فى صباحه ومسائه.

 

 

وطال عليه المرض حتى تركه الجليس وانقطع عنه الناس ولم يبقى احد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه وتعرف قدره وقديم احسانه اليها وشفقته عليها، فكانت تقوم عليه تصلح من شأنه وتعينه على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته حتى ضعف حالها وقل مالها، حتى كانت تخدم الناس بالاجر لتطعمه وتقوم بامره رضى الله عنها وعنه وهى صابرة معه على ما حل بها من فراق المال والولد وما حل بزوجها من البلاء وضيق ذات اليد وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة.... فانا لله وانا اليه راجعون( فاعتبرن يا مؤمنات بمثل هذه الزوجة).
 

 

ولم يزد هذا ايوب عليه السلام الا صبرا واحتساباً وحمداً وشكراً حتى ان المثل يضرب بصبره عليه السلام، لما حدث له من انواع البلاء.... ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمون امراته خوفا من ان ينالهم من بلائه عندما تخالطهم فلما لم تجد احداً يستخدمها.. عمدت فباعت لبعض بنات الاشراف احدى ضفيرتها بطعام طيب كثير فاتت به ايوب عليه السلام فقال من اين لك هذا وانكره فقالت خدمت أناسا... فلما كان الغد لم تجد احداً فباعت الضفيرة الاخرى بطعام.. فأتت أيوب عليه السلام فانكره وحلف لا ياكله حتى تخبره من اين لها هذا الطعام، فكشفت عن رأسها خمارها فرأى راسها محلوقاً.. سبحان الله.... ولا حول ولا قوة الا بالله... نعم إنا وجدناه صابرا نعم العبد... وزوجته نعم العبده الصابره الصالحة.

 

عن انس بن مالك ان النبى (ص) قال: " إن نبي الله أيوب لبث في بلاؤه ثماني عشرة سنه، فرفضه القريب والبعيد الا رجلين من اخوانه كانا من اخص اخوته له، كانا يغدوان اليه ويروحان... فقال احدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب ايوب ذنبا ما اذنبه احد من العالمين، قال صاحبه: وماذاك؟ ، قال من ثمانى عشر سنه لم يرحمه ربه فيكشف ما به، فلما راحا اليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال ايوب عليه السلام:  لا ادرى ما تقول، غير ان الله عز وجل يعلم انى كنت امر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فارجع الى بيتى فاكفر عنهما كراهية ان يذكر الله الا فى الحق... قال وكان يخرج فى حاجته فاذا قضاها امسكت امراته بيده حتى يرجع فلما كان ذات يوم أبطات عليه ، فاوحى الله الى ايوب فى مكانه ان " اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) " القصص.... فاستبطأته، و اقبل عليها قد اذهب الله ما به من البلاء وهو احسن ما يكون، فلما راته قالت: اى بارك الله فيك هل رايت نبى الله المبتلى؟ فوالله القدير على ذلك ما رايت رجلاً اشبه منك اذ كان صحيحاً، قال: فانى انا هو..." رواه بن حيان والطبرى وصححه الحاكم ووافقه الذهبى.

 

وعن النبى (ص) انه قال: " بينما ايوب يغتسل عرياناً نزل رجل جراد[3] من ذهب فجعل ايوب يحتثى فى ثوبه ، فناداه ربه عز وجل " يا ايوب الم اكن اغنيتك عما ترى ؟ قال: بلى يا رب ولكن لا غنى لى عن بركتك ".    

 

وكان ايوب عليه السلام لما رأى ان زوجته قد باعت ضفائرها وما قاله اخص أخوته.. دعا الله " وايوب اذ نادى ربه انى مسنى الضر وانت ارحم الراحمين
(83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر واتيناه اهله و مثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84) " الانبياء.

 

ما اروع قصة ايوب عليه السلام... وما أروع دعاء أيوب مع عظم روع ابتلاءه..الابتلاء بالضر في المال والأهل والجسم والولد ولتعلم ان الابتلاء قد يكون بالتكذيب كما فى قصة لوط ونوح وابراهيم وقد يكون بالنعمة كما فى قصة داود وسليمان وقد يكون بالضر كما فى قصة ايوب عليه السلام.

 

دعا ايوب ربه، لم يزد عن وصف حاله باخف الالفاظ انى مسنى الضر، ثم اثنى على الله بصفته سبحانه وتعالى وانت ارحم الراحمين.... ما ارق هذا الدعاء واحسنه، ثم انه لم يدعوا بتغيير حاله صابرا على بلائه، ولم يقترح على الله شئ فهو ارحم الراحمين، وتأدبا مع الله وتوقيرا له، فسبحانه اعلم بحاله واعلم بما يصلح به حاله وقتما شاء وكيفما شاء ارحم الراحمين، وهذا نموذج رفيع للعبد الصابر، لا يضيق صدره بالبلاء ولا يتململ من الضر الذى تضرر به فى جميع الازمان، بل انه ليتحرج ان يطلب الى ربه رفع البلاء عنه فيدع الامر كله لله متوكلا عليه مطمئناً الى علمه بحاله راضياً بامره موقناً برحمته سبحانه وتعالى.

 

وفى اللحظة التى توجه فيها ايوب الى ربه بهذه الثقة وهذا الادب الجم كانت الاستجابة والرحمة وكانت نهاية الابتلاء " فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر واتيناه اهله ومثلهم معهم" .

 

رفع عنه الضر فى بدنه فابدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة وجمالا تاما ومالا كثيراً   ثم رفع الضر فى اهله فعوضه عمن فقد منهم ورزقه مثلهم (وقيل هم ابناه ثم وهب الله له مثلهم )....

 

" رحمة من عندنا " اى رأفة منا واحساناً فكل نعمة من الله هى رحمة من عنده سبحانه وتعالى ومنة على العبد..." وذكرى للعابدين " اى تذكره لمن ابتلى فى جسده او ماله او ولده فله اسوة بنبى الله ايوب حيث ابتلاه الله بما هو اعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه، فهذه تذكرة للعابدين تذكرهم بالله وبلائه ورحمته فى البلاء وبعد البلاء، فان في بلاء أيوب عليه السلام لمثلاً للبشرية كلها، وان في صبر أيوب لعبرة للبشرية كلها فهو مثلا للصبر والادب وحسن العاقبة، تتطلع اليه الابصار.... ذكرى للعابدين.. فالعابدون معرضون للابتلاء والبلاء وتلك تكاليف العبادة والعقيدة والايمان، فالعقيدة امانة لا تسلم الا للامناء القادرين عليها المستعدين لتكاليفها، بالصبر، ليتجاوزوا المحن والبلاء.

 

 

والآيات توضح أهمية الدعاء مع الصبر على البلاء والادب، قال بن القيم:
" الدعاء إذا سلم من الموانع من انفع الاسباب فى دفع المكروه وحصول المطلوب، فهو من انفع الادوية وهو عدو البلاء يدفعه ويعالجه ويمنع نزوله ويخففه اذا نزل"

 

وعن النبى (ص): " الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء " حديث حسن رواه احمد.

 

ولنرجع الى زوجته عليه السلام... فانه في يوم عليه السلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها فى امر فعلته... قيل لأنها باعت ضفيرتها وقيل لغير ذلك من الأسباب، فلامها وحلف ان شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة، فلما شفاه الله وعافاه امره الله بان " وخذ بيدك ضغثاً[4]ً فاضرب به ولا تحنث[5]" وبذلك رحمه الله ورحم زوجته التى قامت برعايته وصبرت على بلائه وبلا نهاية، امره الله ان ياخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذى حدده فيضربها به ضربة واحدة.... تجزئ عن يمينه فلا يحنث فيه وهذا التيسير والانعام جزاء على ما علمه الله من عبده ايوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء اليه سبحانه وتعالى، فهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله واطاعه ولاسيما فى حق امراته الصابرة الصديقة البارة الراشدة رضى الله عنها.

 

 

" إنا وجدناه صابرا نعم العبد انه اواب"

 

ولقد اثنى الله عز وجل من فوق سبع سموات على عبده ايوب فانه نعم العبد، فقد صبر صبرا جميلاً، لم يلن له جانب فى الصبر طيلة بلاءة الممتد لمدة طويلة، كان داعيا متحلياً بالصبر سائلا الله ان يعينه وان يديم عليه الصبر، صبر ايوب... امام الصابرين.

 

فالصبرتربية للمؤمنين وصقل لمعادنهم وتمحيص لما فى قلوبهم، قال تعالى:
 " وليبتلى الله ما فى صدوركم وليمحص ما فى قلوبكم والله عليم بذات الصدور (154) " آل عمران.

 

والصبر لرفع درجات المؤمنين ومضاعفة حسناتهم وتكفير لخطاياهم، قال (ص): "ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب[6] ولا حزن ولا اذى حتى الشوكة يشاكها الا كفر بها من خطاياه " رواه البخارى.

 

والصبر والابتلاء لتطهير الصف من ادعياء الايمان والمنافقين والذين فى قلوبهم مرض، قال تعالى: " وما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب (179) " آل عمران.

 

وقال تعالى: " ومن الناس من يقول آمنا بالله فاذا أوذى فى الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولين جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم او ليس الله باعلم بما فى صدور العالمين (10) " العنكبوت.

 

وقال تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف فان اصابه خير اطمأن به وان اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين (11) " الحج.

 

يقول بن القيم فى زاد المعاد" فان القلوب يخالطها بغلبات الطبائع ميل النفوس وحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة ما يضاد ما اودع فيها من الايمان والاسلام والبر والتقوى فلو تركت فى عافية مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ولم تتمحص منها فاقتضت حكمة العزيز الحكيم ان قيض لها من المحن والبلاء ما كان كالدواء لمن عرض له داء".

 

اللهم إنا نسألك أن تلهمنا الصبر فى كل امور ديننا ودنيانا صبرا فى السراء والضراء وفى النعمة وعند المحنة فلا صبر ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.

 

 

 

 

 

 

 

" وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا

 بالله العزيز الحميد "

 

 

قال تعالى: "والسماء ذات البروج (1) واليوم الموعود (2) وشاهد ومشهود (3) قتل اصحاب الاخدود (4) النار ذات الوقود (5) اذ هم عليها قعود (6) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (7) وما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8) الذى له ملك السموات والارض والله على كل شئ شهيد (9) " سورة البروج.

 

 

يقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج، ذات الكواكب والنجوم العظام.. التى لا يدرك العقل عظمها، كما لا يدرك منتهى السماء وعلوها، وهذا قسماً من الله العظيم مالك الملك على اصحاب هذه الفعله الشنعاء... ففى هذ القسم الوعد والوعيد الشديد لهؤلاء الكفار، كما يقسم سبحانه باليوم الموعود يوم القيامة الذى وعد الله الخلق ان يجمعهم فيه، اولهم وأخرهم، قاصيهم ودانيهم، فهذا اليوم موعود به الناس جميعاً لا يمكن ان يتغير، ولن يخلف الله الميعاد، وهذ القسم باليوم الموعود تنبيها على قدرته وعظمته سبحانه وتعالى، فهو الملك الحق... لمن الملك اليوم لله الواحد القهار مالك الملك ذو الجلال والاكرام، فهذا يوم الفصل والجزاء يوم تجزى كل نفس ما كسبت، يوم يعلم الظالمون اى منقلب ينقلبون، يوم تذهل كل مرضعة عما ارضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى...انما هو عذاب الله... يوم القيامة... اليوم الموعود... الذي يشهده ويحضره كل الناس، يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، يوم تبلى السرائر، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وماادراك ما يوم الدين، ثم ما ادراك ما يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شئ والامر يومئذ لله، هذا اليوم المشهود، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتنى كنت تراباً، يوم ينفخ فى السور فتأتون افواجاً وفتحت السماء فكانت سرابا، يوم لا ينطق المكذبين، ولا يؤذن لهم فيعتذرون... يوم الفصل وما ادراك ما يوم الفصل، يوم يقول الانسان يومئذاً اين المفر، يوم ينبأ الانسان بما قدم وآخر، يوم يخرجون من الاجداث سراعاً كانهم الى نصب يوفضون، خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذى كانوا يوعدون.....

 

 

بعد ان اقسم سبحانه وتعالى بالسماء ذات البروج واليوم الموعود .. يعلن سبحانه وتعالى نقمته على اصحاب الاخدود، كلمة تدل على غضب الرحمن، غضب العزيز الحكيم على الفعلة وفاعليها، كما تدل على شناعة الذنب الذى يثير غضب الحليم ونعمته ووعيده بالقتل[7] لفاعليه .. والاخدود الحفر التى تحفر فى الارض، وكان اصحاب الاخدود هم قوم كافرين، ولديهم قوم مؤمنون فراودوهم على الدخول فى دينهم الذى هو الكفر فامتنع المؤمنون، فشق الكافرون اخدودا فى الارض وقذفوا فيها النار وقعدوا حولها.. النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود... جلس هؤلاء الملعونين عند النار، كان الملك واصحابة جلوساً على الاسرة عند الاخدود يعرضون على المؤمنين الكفر، فمن ابى القى فى الأخدود، واخذوا يتلذذون وهم يشاهدون اطوار التعذيب وفعل النار فى الاجسام فى لذة وسعادة، وهذا ما يكون من اعظم ما يكون من التجبر وفساد القلب، لانهم جمعوا بين الكفر بآيات الله ومعاندتهم لها ومحاربة اهل الايمان وتعذيبهم بهذا العذاب الذى تنفطر منه القلوب، وهم حضور يشاهدون ويتسامرون ويضحكون عند القاءهم بالمؤمنين فى هذا الاخدود.....

 

ولماذا هذا التعذيب ؟، يقول الله تعالى: " وما نقموا منهم الا ان يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8) الذى له ملك السموات والارض والله على كل شئ شهيد (9)" البروج.

 

هذه هى جريمتهم انهم آمنوا بالله الواحد الاحد، آمنوا بالله العزيز القادر على ما يريد، الحميد المستحق للحمد فى كل حال والمحمود بذاته وان لم يحمده الجهال وهو الحقيق بالايمان والعبودية له هو وحده، مالك الملك له ملك السموات والارض.... فالله سبحانه وتعالى شهيد على فعلتهم علماً وسمعاً وبصراً... فهو سبحانه الشهيد على ما كان من امر المؤمنين وامر الكافرين... فالمؤمنون لهم البشرى فالله عليهم شهيد.... والكافرون لهم الوعد والوعيد وسوء العاقبة.... فالله عليهم شهيد وكفى بالله شهيداً .

 

وتنتهى رواية ما حدث، بعد أن امتلأت القلوب بالروعة، روعة الإيمان الذي يستعلى على الفتنة، روعة العقيدة المنتصرة، بعيدا عن ازهاق الجسم فقد كان بامكانهم ان ينجو بحياتهم فى مقابل الهزيمة لايمانهم،  ولكن كم كانوا هم انفسهم يخسرون فى الدنيا قبل الاخرة، وكم كانت البشرية كلها ستخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة وبشاعتها بلا حرية وانحطاطها حين يسيطر عليها الجبابرة... لقد فاز اصحاب الأخدود، ذكرهم الله فى قرانه الكريم مثال يحتذى للصبر على البلاء، للصبر والثبات على الحق، فهم أسوة لكل مؤمن موقن بان الموت والحياة بيد الله، فلم ترهبهم النار وهى تمس اجسادهم فتحرقها، وهم على الحق، وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، لهم جنات تجرى من تحتها الانهار، لهم الفوز العظيم.... ولأعدائهم ايضا حساب، لهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، جهنم وما ادراك ما جهنم ونارها...

 

وعن ذكر اصحاب الاخدود روى مسلم فى صحيحه عن صهيب ان رسول الله (ص) قال: " كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر، فلم كبر قال للملك: انى قد كبرت فابعث الى غلاماً اعلمه السحر، فبعث اليه غلاماً يعلمه، فكان فى طريقه اذا سمع راهب فقعد وسمع كلامه فاعجبه، فكان اذا اتى الساحر مر بالراهب وقعد اليه، فاذا اتى الساحر ضربه فشكا ذلك الى الراهب فقال: اذا خشيت الساحر فقل: حبسنى اهلى واذا خشيت اهلك فقل حبسنى الساحر، فبينما هو كذلك اذ اتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال اليوم اعلم الساحر افضل ام الراهب افضل ؟ ، فاخذ حجرا فقال: اللهم ان كان امر الراهب احب اليك من امر الساحر فأقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، فاتى الراهب فاخبره، فقال له الراهب: اى بنى انت اليوم افضل منى، قد بلغ من امرك ما ارى وانك ستبلى فان ابتليت فلا تدل على، وكان الغلام يبرئ الاكمه والابرص ويداوى الناس من سائر الادواء... فسمع جليس للملك كان اعمى فاتاه بهدايا كثيرة، فقال ما ههنالك اجمع ان انت شفيتنى، فقال: إني لا أشفى احد, انما يشفى الله، فان انت آمنت بالله ودعوت الله فشفاك... فآمن بالله فشفاه، فأتى الملك فجلس اليه كما كان يجلس، فقال له الملك من رد عليك بصرك ؟ ، فقال: ربى...فقال: اولك رب غيرى، قال: ربى وربك الله، فاخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجئ بالغلام فقال له الملك: اى بنى قد بلغ من سحرك ما تبرى الاكمه والابرص وتفعل ما تفعل، فقال: انى لا اشفى احد، انما يشفى الله، فاخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجئ بالراهب، فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار فى مفرقة راسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جئ بجليس الملك فقيل ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار فى مفرقه راسه فشقه ودفع به حتى وقع شقاه، ثم جئ بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبى فدفعه الى نفر من اصحابه فقال: اذهبوا به الى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فاذا بلغتم ذروته فان رجع عن دينة والا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل... فقال: اللهم اكفينهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشى الى الملك، فقال له الملك: ما فعل اصحابك ؟ قال كفاينهم الله فدفعه الى نفر من اصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه فى قرقور... فتوسطوا به البحر، فان رجع عن دينه والا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفينهم بما شئت، فانكفات بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشى الى الملك، فقال له الملك ما فعل اصحابك ؟ فقال كفاينهم الله فقال للملك انك لست بقاتلى حتى تفعل ما آمرك به فقال ما هو ؟ قال تجمع الناس فى صعيد واحد وتصلبنى على جزع ثم خذ سهماً من كنانتى ثم ضع السهم فى كبد القوس، ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمنى فانك اذا فعلت ذلك قتلتنى، فجمع الناس فى صعيد واحد وصلبه على جزع، ثم آخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم فى صدغه، فوضع يده على صدغه فى موضع السهم فمات.. فقال الناس: آمنا برب الغلام.. آمنا برب الغلام... آمنا برب الغلام فاتى الملك فقيل له: ارايت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس.. فأمر بالأخدود في أفواه السكك وأضرمت النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه اقحموه فيها ففعلوا حتى جاءت امراءة ومعها صبى لها فتقاعست ان تقع فيها، فقال لها الغلام: يا آماه اصبرى فانك على الحق " رواه مسلم والترمذى.... وقرقور : اى سفينه.

 

لقد عمد الكفار الى من عندهم من المؤمنين بالله عز وجل فقهروهم وارادوهم ان يرجعوا عن دينهم فأبوا فحفروا لهم فى الارض اخدودا وأججوا فيه النار واعدوا لها وقودا يسعرونها به ثم قذفوهم فيها.... ولماذا فعلوا ذلك بأولئك المؤمنين ؟

ما كان لهم ذنب عندهم الا انهم آمنوا بالله العزيز الذى لا يضام من لاذ بجنباته الحميد فى جميع اقواله وافعاله وشرعه وقدره وان كان قدر على عباده هؤلاء هذا الذى وقع بهم بايدى الكفار به سبحانه فهو العزيز الحميد وان خفى سبب ذلك عن كثير من الناس فهو المالك لجميع السموات والارض لا يغيب عنه شئ ولا تخفى عنه خافية...

 

فجزاء المؤمنين ان لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها، بخلاف ما أعد سبحانه وتعالى لاعدائه من الحريق والجحيم، فالفوز الكبير للمؤمنين والبطش الشديد للكافر.

 

 

الفوز الكبير للحق والثبات على الحق، للصبر والاستعانة بالله وبالدعاء وبالصبر، فهنيأً للصابرين على البلاء المبين هنيئاً للصابرين المؤمنين، هنياً لمن تجرع دواء الصبر فى المحن والنوازل والبلاء وهنيأً للمؤمن حين يعيش فى ظل الكرب الخانق يتنعم رحمة الله وفرجه، لا ييأس ابداً مهما اشتد به البلاء والضيق، هنيأً لمن اطمئن قلبه بذكر الله، هنيأ لمن صبر ووثق بان الله ارحم الراحمين، مهما كانت مضايق الشدة ومخانق الكرب، والحمد لله ارحم الراحمين، فالصبر نعمة من الله وكل نعمة منه سبحانه رحمة لنا، فالصبر رحمة وعون ومعين به المؤمن بدعاء ربه يستعين، اللهم الهمنا صبر عبادك الصابرين، واخرجنا من مخانق الطبائع وميول النفس وخطوات الشيطان والغفلة والتمسك بالدنيا واهدنا الى الصراط المستقيم يا ارحم الراحمين.

 

 

 

 

 

 

[1]  وميض: لمعان خفيف.. ومض لمع وظهر فهو وامض وهى وامضة.

 

[2] وهب بن منبه الصنفانى اليمنى من التابعين وثقه عند الجمهور وخالف الغلاس فقال: انه كان ضعيفاً يحدث كثيراً عن اهل الكتاب – ولقد اوردنا هذا الدعاء لما يوحيه بجو وسياق القصة.

 

[3] رجل جراد : اى جمع كثير من الجراد من الذهب فاخذ عليه السلام يغترف بيده فى ثوبه.

 

[4] ضغث : الحشيش وغيره وكل ما جمع  وقبض عليه بجمع الكف ونحوه .

 

[5]  الحنث فى اليمين : اى لم يبر بها وأثم.

 

[6] النصب : التعب ، والوصب : المرض.

 

[7] قال بن عباس : اذا ذكرت كلمة قتل فى القرآن فانها تعنى اللعن والطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى .

©Taqwa.Allah.wa.Hosn.Alkholok

  • Facebook Clean
  • Twitter Clean
  • White Google+ Icon
bottom of page